دروس خصوصية لفتاة جميلة

ومن أصعب ما مر بي من تجارب في مجال الدروس الخصوصية تجربة كنت ناسيها فما حدَّثْتكم حديثها، هي أنه كان في (بوَّابة الصالحية) مؤسسةٌ أهلية لأستاذٍ لبناني اسمه (كما أذكر) سليمان سعد، تُدعى (كما أظن) "الجامعة العربية"، سمِع بأني أُحْسِنُ العربية وأحتاج إلى المال، فعرض عليّ أن أُلْقي عنده درساً خاصاً لطالب واحد بأجرٍ كان يُعْتَبَر كبيراً جداً، فقَبِلْتُ .. وكانت المفاجأة الكبيرة يوم الدرس أن هذا الطالب جاء يحمِلُ معه تاء التأنيث، لم يكن طالباً ولكن طالبة شابةً تتفجَّر شباباً وتفيضُ حُسْناً، تنشر حولها ساحة من الفتنة مثل الساحة المغنطيسية، لم أقْدِر أنْ أُمَكِّن نظري منها لأَصِفَ وجهها وعينيها، ولكنَّ اللحظة التي لقيَتْ عينايَ فيها عينيها كَفَتْ لتقول لي وأقول لها ... 

 والخلاصة أني أُصِبْتُ منها بمثل ما يصيب من يَمَسُّه السِّلْك مشحوناً بتيار الكهرباء، ووقفتُ ألتقط أنفاسي وأرقُبُ أن أفيق من دهشتي، يتَقاذَفني مَيْلُ نفسي إلى تدريس هذه الفتاة مع حاجتي إلى الأجر الكبير الذي عُرِضَ عليّ، وخوفي من الله الذي أسأله أن يُبْعِدني عن طريق الحرام ومَزّلَّات الأقدام ..
وترَدَّدْتُ هل أقول: لا، فأحْرِم نفسي مُتْعَةَ الجمال والمال، أم أقول: نعم، فأسلك سبيل الضلال؟
وتمَنّيْتُ أن أقوى على الرفض، فلم أستطِعْهُ، ومَنَعَني ديني من أن أُعْلِنَ القبول، وكانت هذه الخواطر تمُرّ في نفسي مرَّ "الفِلم" الذي يكرُّ مُسرعاً، وهما يَرْقُبان الجواب، وهو يُشجِّعُني على القَبول ..
 فقلت: ولكني لا أستطيع أن أُدَرِّس الآنسة وحدها _ وقد نسيت أن أقول لكم إنها كانت سافرةً يَتَهَدَّل شعرها على كتِفها وتبدو ذراعاها _ قالا: ولِمَه؟ قلت: لأن ديني يُحَرِّم هذا عليّ .. قالت: آتي بأخي معي يحضُر الدرس. وليتَها ما نطَقَتْ؛ فقد كان صوتُها فتنةً أخرى كامنةً فيها، ومن الأصوات ما يفْتِن ولو نَطَقتْ صاحِبتُه بالموعظة والتّذكير.
 وحضر أخوها ودرَّستها... درَّستُها أربع حصص أو خمساً، الله أعلم كيف كنتُ فيها، وإن لم أدْرِ (صدِّقوني) ما لونُ عينيها، فأنا كنت الخجلان لا هي، فكنت أتحاشى النظر إليهما، على رغبة نفسي فيما أتحاشاه .
 ثم رأيت أن استمرار الدرس مع غضِّ البصر ولزوم الاحتشام ومع ما في النفس من الرغبة الطاغية نوعٌ من عذاب الدنيا، ونظري إليها ورفع الكُلْفة معها وتوثيق الصلة بها تعريض نفسي لما هو أشدُّ منه من عذاب الآخرة، فتركت لها ما بقي من الأجرة معها وهربتُ منها وقلبي عندها.
من كتاب (الذكريات) الجزء الثاني علي الطنطاوي


الإبتساماتإخفاء